الخدمات البلدية تحت الحصار

تقرير الاتحاد الفلسطيني للهيئات المحلية

 

يختزل ما يحصل اليوم كل فصول الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين منذ 76 عامًا، حصيلة ثمانية عقود من الغطرسة الإسرائيلية التي تسببت بأثمان باهظة دفعها الفلسطينيون. وبينما نشهد فقدان الآلاف من الأرواح، والدمار واسع النطاق، يصبح من الواضح أن الاحتلال قد اتخذ الآن أبعادًا جديدة وكارثية، لا تؤثر على المواطنين فحسب، بل وعلى كل قطاع من القطاعات.

بلديات غزة في مواجهة التدمير المكاني وإعادة تشكيل الجغرافيا  

ويعد استهداف خدمات البلديات أحد أوجه الاعتداءات المُمنهَجة في كل الحروب التي شنّتها قوّات الاحتلال الإسرائيلي ولم تستثن أي مجال من مجالات الحياة. ولكن في حرب غزة 2023، عملت القوّات الإسرائيليّة على تنفيذ إبادة جماعيّة للشعب الفلسطيني لم يشهدها التاريخ. وقد تعرّض المشهد الخدمي في القطاع إلى اعتداءات كثيرة، منها تدمير عدد من منشآت وآليّات البلديّات التي تقدّم خدماتها للمواطنين الفلسطينيين. شملت هذه الاعتداءات أيضًا تدمير الطرق ومعظم البُنى الأساسيّة الخدميّة كخزّانات المياه ومحطّات الصرف الصحي والآبار. إلى جانب استشهاد عدد كبير من العاملين في هذا المجال – إذ ارتقى رئيسا بلديتي النصيرات والمغازي في فترة متقاربة نتيجة غارات إسرائيلية على مواقع تواجدهما – وهو ما يسعى الاحتلال من خلاله إلى إعادة هيكلة البُعد الإداري، وهذا ما يفسر الاستهداف الممنهج لجميع القطاعات المركزية الإدارية، والمؤسسات والمقار الحكومية والأهلية والجامعات.

وفقًا للمخطط الإسرائيلي فقد تم تنفيذ المرحلة الأولى منه، المتمثلة بعملية التدمير المكاني وهندسة الجغرافيا (تدمير المنازل والبنية التحتية)، والآن يجري استكمال هندسة الواقع الديموغرافي السكاني، من خلال استهداف المخاتير وممثلي العائلات والوجهاء، وصولًا إلى رؤساء البلديات، باعتبارهم العناوين الرئيسية التي تُشكل خطوط التماسك الاجتماعي المحلي ومرجعيته.

وفي تقديره الأولي للأضرار، أشار التقرير المشترك للبنك الدولي والأمم المتحدة (نيسان 2024) إلى أن البنية التحتية في غزة تعرضت لخسائر فادحة، حيث أن

  • إجمالي الأضرار: 18.5 مليار دولار حتى يناير 2024.
  • المباني السكنية: 72% من إجمالي الأضرار.
  • البنية التحتية للخدمات: 19% (مياه، صحة، تعليم).
  • الحطام: 26 مليون طن من الأنقاض.
  • تأثير إنساني: 75% من السكان مُهجرون، أكثر من مليونين بلا مأوى، وانهيار النظام الصحي والتعليمي.
  • المرافق الصحية: 84% مدمرة، ونظام المياه والصرف الصحي شبه منهار.
  • البنية التحتية للطاقة: تدمير شبه كامل لشبكات الكهرباء والطرق الرئيسية.
الأضرار الواقعة على قطاع غزة
إجمالي الأضرار حتى يناير 2024
18.5 مليار $
إجمالي الأضرار حتى يناير 2024
أضرار المباني السكنيّة
72%
أضرار المباني السكنيّة
البنية التحتية للخدمات
19%
البنية التحتية للخدمات
حجم الأنقاض
26 مليون طن
حجم الأنقاض
المرافق الصحية
84 %
المرافق الصحية

يعتني الاحتلال الإسرائيلي جيدًا بشبكات المياه والطرق ومولدات الطاقة ومحطات الكهرباء، مثلما فعل في مناطق مثل بيت لاهيا والبريج باستهداف مولدات الطاقة التي تشغل محطات تحلية المياه وتخزينها، واستهداف شبكة الكهرباء في غزة، وشبكة المياه في الفخاري، وتدمير 12 بئر مياه في منطقة البريج و15% من شبكة المياه التابعة لها، إلى جانب تدمير 6 آبار رئيسية في المغازي. وهو ما أدى إلى شلل شبه كامل في تقديم الخدمات الأساسية في غزة، لا سيما بعد أن أصبحت مرافق الهيئات المحلية ومعداتها خارج الخدمة.


تضاعفت أهمية الأدوار المنوطة بالهيئات المحلية في مواجهة الأضرار والتحديات الجسيمة الناجمة عن الحرب. وبات من الضروري اتخاذ إجراءات عاجلة للحد من الآثار الكارثية للحرب على المناطق السكنية والبنية التحتية. إلا أن قدرة هذه الهيئات على القيام بدورها باتت محدودة للغاية في ظل الدمار الشامل الذي لحق بمقراتها ومعداتها. تشير الإحصائيات إلى أن 40% من بلديات غزة دُمرت بالكامل، كما تضررت 36.8% من آلياتها ومعداتها الثقيلة بشكل كامل. علاوة على ذلك، تعرضت 55% من مولدات البلديات لأضرار بالغة.


على سبيل التدليل لا الحصر، شهدت عبسان الجديدة دمارًا شاملًا لمقر بلديتها ومرافقها، مما أدى إلى توقف تقديم الخدمات بشكل كامل. وبالمثل، تعرض مقر بلدية البريج للتدمير التام بخسائر فادحة تقدر بمليون دولار أمريكي. امتد الخراب ليطال 30 مرفقًا من مرافق بلدية غزة

تسببت الغارات الإسرائيلية في تدمير حوالي 65% من شبكات الطرق وأكثر من نصف المنازل السكنية، مما أدى إلى تراكم كميات هائلة من الأنقاض التي عرقلت حركة المرور وحاصرت السكان والنازحين. ففي منطقة المواصي، عملت بلدية القرارة على إعادة تأهيل الطرق الترابية المتضررة وإزالة حوالي 80 طنًا من النفايات التي تراكمت في الشوارع، وقد قامت البلدية بترحيل هذه النفايات إلى مواقع مؤقتة، وفي الشهر الأول من اندلاع الحرب، تعاونت لجنة الطوارئ في بلدية المغراقة مع طواقم وآليات وزارة الأشغال العامة والإسكان لفتح الطرق وإزالة أنقاض المنازل التي دُمرت جراء القصف، حيث تولي البلديات اهتمامًا كبيرًا بجمع النفايات وإزالتها من الشوارع، كما تفعل فرق العمل في بلدية رفح رغم توغل قوات الاحتلال في المنطقة.

وفي أعقاب ذلك كله، وفي ظل الأزمة المائية الحادة التي تفاقمت بسبب العدوان الإسرائيلي، عملت بلديات قطاع غزة جاهدة لتوفير المياه الصالحة للشرب للمواطنين. فقد قامت بإصلاح شبكات المياه المتضررة والمضخات المعطلة نتيجة القصف. إذ نجحت بلدية النصر في إصلاح الخطوط الرئيسية التي تزود البلدة بالمياه والتي استهدفتها قوات الاحتلال. كما قامت بلدية بني سهيلا بمد خطوط مياه مؤقتة لعدة أحياء في المدينة، وذلك بعد أن دمر الاحتلال شبكات المياه فيها. ونفذت بلدية دير البلح أعمال صيانة واسعة النطاق لشبكات المياه في مختلف مناطق المدينة.

ومن أجل التعامل مع التحديات الصحية الناجمة عن تراكم النفايات وانتشار المياه العادمة في شوارع قطاع غزة، تحرص بلديات غزة على عمل كل ما يلزم لجمعها والتخلص منها وإصلاح خطوط المياه العادمة والصرف الصحي. كما فعلت بلدية الزوايدة لتنفيذ أعمال صيانة ومعالجة وإصلاح عدد من خطوط الصرف الصحي، ومتابعة طواقم الطوارئ في بلدية خزاعة لمشاكل الصرف الصحي وتوفر المياه في مراكز الإيواء في محافظة خانيونس، وعملت على إيجاد حلّ لبعض هذه الإشكاليات وفق إمكانياتها المتوفّرة. وأيضًا الإجراءات التي اتخذتها بلدية المغراقة لضخ وتصريف أكثر من 1800 متر مكعب من مياه الصرف الصحي يوميًا باستخدام سيارات ومحطات الضخ لأطول فترة ممكنة قبل توقفها

وفي إطار جهودها للتخفيف من معاناة المواطنين، تقوم الهيئات المحلية بتنظيم جولات ميدانية مستمرة لتقييم الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية وتلبية احتياجات المواطنين. تشمل هذه الجولات عمليات مسح شاملة لضمان توفر المياه والكهرباء، وإزالة المخلفات الخطرة، وإنقاذ العالقين تحت الأنقاض، وتوفير الرعاية الصحية في مراكز الإيواء. على سبيل المثال، قامت بلدية خزاعة، بالتعاون مع فرق الهندسة، بإزالة القذائف غير المنفجرة لحماية أرواح المواطنين. كما ساهمت بلدية خان يونس في عمليات الإنقاذ وإخراج العالقين تحت الأنقاض. بالإضافة إلى ذلك، تعمل جميع البلديات على تنظيف وتعقيم مراكز الإيواء لضمان سلامة النازحين.

ولقد أعاق التدمير المنهجي للبنية التحتية في غزة من قبل إسرائيل بشكل خطير التنمية المستقبلية للمنطقة. ويبدو أن هذا الدمار، الذي استهدف الأرشيفات والمراكز الثقافية والمكاتب الإدارية، يشكل جزءًا من جهد أوسع نطاقًا لمحو تاريخ غزة وزعزعة استقرار مستقبلها. فقد تم تدمير مقار البلديات التي تحتوي على سجلات تخطيط حضري وأنظمة المياه، وتعد ضرورية للتخطيط الحضري والخدمات الأساسية، مما أدى إلى تعطيل جهود إعادة الإعمار على المدى الطويل. كما أدت الغارات الجوية الإسرائيلية إلى محو الأرشيفات المركزية التي تحتوي على أكثر من 150 عامًا من السجلات الحضرية والاجتماعية، إلى جانب البنية الأساسية الحيوية للمياه والصرف الصحي.

تكتيكات الحرب على قطاع غزة تصل إلى الضفة الغربية 


وفي الوقت الذي تشن فيه "إسرائيل" حربًا تدميرية وإبادة جماعية في قطاع غزة منذ ما يقارب العام لجعل القطاع منطقة غير قابلة للحياة، فإنها تتبع في الضفة إجراءات متنوعة تصب في مجملها لتحقيق هذا الهدف، وإن كانت تتم بصورة أقل بشاعة. وباتت عصابات المستوطنين جيشًا موازيًا لجيش الاحتلال، يلعب دورًا لا يقل خطورة عما يرتكبه الجيش من جرائم يومية ضد الفلسطينيين.

وفي ظل اتجاه أنظار المجتمع الدولي نحو ما يجري في قطاع غزة، تشهد الضفة الغربية حاليًا أوسع حملة اعتداءات من قبل المستوطنين، بالإضافة إلى توسع جغرافي استيطاني، وتلعب مجالس المستوطنات دورا "ريادياً" في ذلك. شملت هذه الاعتداءات تهجيرًا متعمدًا ترافق في أحيان عديدة بالتهديد المسلح. وتم إغلاق طرق ومنافذ تربط ما بين المدن والقرى والبلدات الفلسطينية.

على ما يبدو أن ما يحصل داخل الضفة الغربية منذ 7 أكتوبر ليس مجرد تصاعد حاد في كمية اعتداءات المستوطنين. بل يشير أيضًا إلى تحول مؤسساتي في دور مجالس المستوطنات التي باتت تتحلى أكثر من ذي قبل بصلاحيات، ومساحات عمل. يترافق ذلك مع الديمغرافيا التي أحكم الاحتلال هندستها بالقمع الخشن والتصاريح الناعمة. يسعى هذا النهج إلى محو الوجود الفلسطيني، سواء ماديًا أو تاريخيًا.

ارتفعت حصيلة الشهداء في الضفّة الغربيّة نتيجة الحملات العسكريّة المكثّفة - تحديدًا على مناطق شمال الضفة الغربية في جنين وطولكرم ونابلس - إلى 716 شهيد. وجُرح في الضفّة الغربيّة 5,750 شخص من ضمنهم أطفال ونساء. وأُسِر 10,800 مواطنًا على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي. ودُمّر على الأقل 1,713 منشأة تدميرًا كليًا في أرجاء الضفّة الغربيّة شتّى. 

وكان التأثير الاقتصادي للحرب مدمرًا للهيئات المحلية، خاصة وأن إسرائيل منعت 85٪ من العمال الفلسطينيين من الوصول إلى وظائفهم في مناطق داخل الخط الأخضر. وقد أدى هذا إلى خسارة اقتصادية تقدر بنحو 1.6 مليار دولار أمريكي. كما وتحتجز حكومة الاحتلال الرقم ذاته من عائدات الضرائب التي تجمعها نيابة عن السلطة الفلسطينية، مما أدى إلى شهور من عدم دفع أجور موظفي القطاع العام. أضف إلى ذلك تضرر القطاع السياحي الذي تعتمد عليه بعض المدن في الضفّة الغربية، إذ سجلت وزارة السياحة الفلسطينيّة خسائر تُقدر بنحو 2,500,000 دولار أمريكي يوميًا خلال فترة الحرب، وتكبدت مدينة بيت لحم وحدها 67% من تلك الخسائر كون اقتصادها يعتمد في الأساس على هذا القطاع

إن ذلك كله، يؤدي إلى عرقلة عمل الهيئات المحلية الفلسطينية بشكل منهجي، حيث لا يمكن للبلديات والمجالس القروية أن تؤدي دورها على أكمل وجه في ظل اقتصادٍ متعثر وأوضاع أمنية غير مستقرة، إذ أن ذلك يضعف قدرة المواطنين على سداد الرسوم والضرائب اللازمة لتقديم الخدمات

وإن الدمار الذي لحق بالمدن والقرى في الضفة الغربية قد استدعى تكثيف الجهود المبذولة من قبل الهيئات المحلية لمواجهة الأزمات والكوارث والعمل على إيجاد حلول سريعة وفعالة، لا سيما في ظل ارتفاع وتيرة الاعتداءات الاسرائيلية منذ بدء حرب الإبادة على غزة الذي تمثل في إحراق الأسواق والمنازل والسيارات، وتجريف للأراضي والشوارع وتحفيرها، واعتداء على البنية التحتيّة من شبكات مياه وصرفٍ صحيٍ واتصالات وكهرباء، وتخريب لممتلكات الهيئات المحليّة وآلياتها والمرافق التي تستخدمها، واعتقال طواقمها. وفي إطار سلسلة الانتهاكات التي تستهدف المؤسسات الفلسطينية، هدم مقار الهيئات المحلية بهدف شل عمله وعزل المواطنين عن مؤسساتهم الشرعية، كما فعلت قوات الاحتلال بهدم مبنى مجلس قروي فروش بيت دجن.

وفي مواجهة جملة التحديات، حشدت الهيئات المحلية الفلسطينية جهودها على نطاق واسع لتقديم الدعم عبر مختلف القطاعات. فقد عملت بنشاط على تسهيل استعادة البنية الأساسية المتضررة من خلال توفير المعدات والمواد اللازمة لإصلاح الطرق وشبكات المياه وأنظمة الصرف الصحي. ولتلبية الاحتياجات الفورية، نظمت مبادرات لجمع التبرعات للمناطق دورًا محوريًا في تنسيق جهود التضامن الدولي، والدعوة إلى التدخل العاجل لوقف الحرب وحماية الفلسطينيين.

وامتدت التدخلات التي نفذتها الهيئات المحلية إلى ما هو أبعد من الدعم المادي، حيث عملت عديد من الهيئات على تنظيم مبادرات الإغاثة النفسية والرعاية الصحية بالتركيز على الأطفال. ومن جانب آخر فقط نشطت في مجالات تقديم الدعم القانوني للمواطنين الذين تتعرض أراضيهم للمصادرة، نحو رفع قضايا أمام المحاكم الوطنية والدولية مثل محكمة العدل الدولية، والتنسيق مع منظمات حقوقية مثل مركز القدس للمساعدات القانونية ومركز أبحاث الأراضي وهيئة مقاومة الجدار والاستيطان، وذلك لضمان توثيق الانتهاكات ورفع الشكاوى القانونية ضد السياسات الإسرائيلية التي تهدف لفرض الاستيطان.