مشاريع أخرى تستعيد الدور الاجتماعي للأرض

وادي حمد في كفر نعمة: بيت النعمة الذي يحمي الأرض ويصون الذاكرة

كفر نعمة، اسمٌ يشي بالوفرة منذ قرون. فكلمة كفر تعني البيت أو الموضع، ونعمة هي الخير والخصب، لتغدو البلدة في معناها بيت النعمة؛ بيت الأرض التي تُعطي بقدر ما تُصان. لم تكن التسمية اعتباطية، بل امتدادًا لعلاقة ضاربة بين الإنسان ومكانه، علاقة قوامها الرعاية والصمود، وتختزن في طياتها معنى البقاء.

إلى الغرب من رام الله، تمتد كفر نعمة ببيوتها الحديثة التي تنمو مع الوقت، لكن قلبها ظلّ كما كان: أرض واسعة تحيط بها آثار قديمة تروي مرور الحضارات، وذاكرة جماعية لا تنفصل عن المكان. في حضن هذه البلدة ينساب وادي حمد؛ مساحة طبيعية ظلّت لعقود متنفسًا للأهالي، حيث تختلط مياه الشتاء بخطوات الأطفال، وتستريح ظلال الأشجار فوق المزارعين العائدين من الحقول.

ومن قلب هذا الوادي وُلد مشروع "تأهيل وإعمار وادي حمد – الأرض لنا"، كخطوة أعادت له دوره كمساحة نابضة بالحياة. أُنشئ جسر يربط ضفتيه، وشُقّت ممرات تسهّل الحركة داخله، وأُعدّت مساحات عامة خضراء تزيد على 400 متر مربع لتكون ملتقى للعائلات ومتنفسًا لأهالي القرية. هكذا تحوّل الوادي إلى حديقة بيئية مفتوحة، يجتمع فيها الناس كما كانوا يفعلون قديمًا، لكن بملامح تتيح لهم أن يعيشوا تجربة أكثر تنظيمًا وراحة.

الأثر بدا سريعًا وملموسًا: ارتفع عدد الزوار بنسبة 20%، ووجد شباب القرية فرص عمل جديدة، فيما أسهمت الحركة السياحية في نشوء مشاريع صغيرة تخدم المكان ورواده. وارتفعت موازنة المجلس القروي بنسبة 15%، لتُثبت التجربة أن الطبيعة، حين تُصان، قادرة على أن تصبح موردًا اقتصاديًا واجتماعيًا.

المشروع كان فعلًا مشتركًا نسجه الأهالي بجهدهم المباشر؛ مئة وعشرون يومًا من العمل التطوعي تركت بصمتها في الوادي، حيث زُرعت الأشجار، ورُتبت المسارات، وتحوّل المكان إلى مجال عام يليق بالمواطنين. ومن هذه المشاركة تبلور فريق من عشرة متطوعين يتولى مع المجلس القروي مسؤولية إدارة الموقع ورعايته، امتدادًا لالتزام جمعي بأن يبقى الوادي حاضرًا في الحياة اليومية.

أهمية وادي حمد لا تنبع من قيمته البيئية والتراثية فقط، بل من كونه موقعًا مهددًا يتعرض لتكرار اعتداءات المستوطنين ومحاولاتهم الاستيلاء عليه. لهذا غدا المشروع فعل صمود بامتياز؛ حماية للأرض، وتحصين لذاكرة المكان، ورسالة واضحة أن الوادي سيبقى لأهله.

اليوم، يُطل وادي حمد كوجه من وجوه كفر نعمة ومعنى اسمها؛ بيت النعمة الذي يعطي بقدر ما يُصان، وحلقة وصل متجددة بين الأرض وأهلها، حيث يتحوّل التراث إلى ممارسة معاشة تعمّق الانتماء وتؤكد الصمود.


حوسان: حين تُفتح الأبواب بالماء

عيون حوسان هي مفاتيحها الأولى، أبواب تُفتح بالماء قبل الطريق. أكثر من خمسةٍ وعشرين نبعًا تتوزع بين سفوحها ووديانها، تصوغ مشهدًا فريدًا حيث يلتقي الحجر بالشجر، والتاريخ بالحاضر. خرير المياه يرافق خطوات الناس، يتسلل بين الحقول، ويختزن في صوته ذاكرة جماعية تشهد على صلة القرية بأرضها عبر القرون.

إلى الغرب من بيت لحم، تقع حوسان وتحرسها ذاكرة ماءٍ اسمها عين البلد. هنا سالت مواسم الزراعة، وتعاقبت جلسات العائلات، وتراكمت الحكايات حول نبعٍ صار جزءًا من تعريف المكان بنفسه. العين كتقويم اجتماعيّ يقيس به الأهالي إيقاع البلدة، من موسم القطاف إلى مواعيد الاستراحة بين الحقول.

غير أن العين، كبقية أراضي حوسان، لم يكن يومًا بمعزل عن محاولات الاستيلاء والتهديد؛ فهو اليوم في مرمى الأطماع الاستيطانية، إذ يتكرر استهداف محيطه ومحاولة فرض السيطرة عليه، فيما يُحاصر المجلس القروي بإجراءات المنع والتقييد التي تعرقل أي ترميم أو تطوير طبيعي للموقع. يصبح الماء، في هذه الجغرافيا، مجالَ استهداف يوميّ: من يملك الحق في الوصول؟ من يقرر شكل المكان ووظيفته؟ وكيف يُختزل المجال العام إلى إذنٍ مؤقت أو منعٍ مفتوح؟

وسط هذا الواقع، جاء التدخل ليحفظ الموقع كفضاء مجتمعي آمن ومفتوح، يحفظ طبيعته ويصون وظيفته الأصلية: نبعٌ للحياة وملتقى للناس. الفكرة بسيطة بقدر ما هي حاسمة: تنظيم الاستفادة من المكان بما يضمن الوصول واحترام البيئة المحيطة، وتثبيت العين كأصلٍ مشترك لا يُختطف ولا يُغلق. لم يكن الهدف صناعة “مرفق” جديد، بل صيانة معنى قديم كي يبقى قابلًا للعيش: أن يجد المزارع ظله وراحته، وأن يشعر الأطفال بالأمان قرب الماء، وأن تبقى العين نقطة التقاء.

انعكس ذلك سريعًا على النسيج الاجتماعي للبلدة. عاد الحضور اليومي حول العين ينسج علاقاتٍ صغيرة لكنها مؤثّرة؛ لقاءات عفوية، استراحات قصيرة بين عمل وآخر، وحديثٌ متجدد عن الأرض والماء. هذه التفاصيل، على بساطتها، هي ما يصنع الفضاء العام الحقيقي: مكانٌ لا يحتاج إلى مبالغة ليؤدي دوره، يكفي أن يبقى متاحًا وعادلًا وآمنًا.

البعد الوطني هنا ليس زينة لغوية؛ هو جوهر الفكرة. حماية عين البلد هي حماية لحقٍ أصيل في الموارد والمساحات العامة، ورفضٌ لسياسات القضم البطيء التي تبدأ بالماء ولا تنتهي عنده. حين يحافظ الناس على موقعهم الطبيعي ويصرّون على استخدامه، فإنهم يثبّتون حضورهم السياسي بلا خطابٍ زائد: وجودٌ ملموس في المكان، ورعاية يومية لأثمن ما فيه.

وهكذا تصبح حوسان، من خلال عينها، درسًا واضحًا: أن تصون الماء لتصون المعنى؛ أن تحافظ على الفضاء العام لكي لا يتحوّل الناس إلى ضيوفٍ في بلدتهم. إنّ تثبيت عين البلد كما هي ولأهلها، ليس تحسينًا تجميليًا لمشهدٍ جميل، بل فعلُ سيادةٍ مدنيّ هادئ على الأرض والماء—خطٌ متقدم في معركة البقاء، يفتح المكان لأهله ويغلقه أمام محاولات محوه.


عنزة | العين التي استعادت حضورها عند العتبة الأولى للبلدة

عنزة؛ حين يفتح العلوّ أبوابه على الأرض. القرية المعلّقة على كتفي جبلين جنوب جنين تبدو كأنها شرفة واسعة، تكشف مشهدًا متدرجًا من الجبال إلى السهول حتى البحر البعيد. في مدرجاتها يتجسّد الثبات بزيتونٍ يرافق الحجر، وبجوارها عاد وادي البشم إلى الخضرة بعدما استعادت المياه حضورها، فيما يترك الورد الجوري الذي زرعته النساء أثره كجمال عنيد في قلب الحقول. من هذا العلوّ، تحرس القرية أرضها وتفتحها على الأفق في آن واحد.

كما تبدأ معظم حكايات أجدادنا حول عيون الماء، تبدأ حكاية عنزة من عينها القائمة عند العتبة الأولى للبلدة. كأن كاتب التاريخ وضعها هناك عمدًا، لتكون سجلّ البلدة المفتوح؛ يدوَّن على حجارتها مسار الناس، ويجري في مائها صدى المواسم والأصوات. حولها تجمّعت خطوات المزارعين، وتعانقت أصوات الأطفال، وتناقلت الأجيال حكاياتها، حتى غدت العين سطر البداية في تاريخ البلدة، ورمزًا من رموز فلسطين التي ترى في كل عين ماء شاهدًا على البقاء.

ومن هذه العتبة تواصل المشهد بخطوات معاصرة؛ أُعيد ترميم البئر الأثري، ورُتّبت الساحة المحيطة، وشُقّت مسارات مهيأة لتستقبل الجميع. وكان الأهالي جزءًا من هذا الترتيب، إذ انخرطوا في عمل تطوعي جعل المشروع امتدادًا مباشرًا لهم، يحمل أثر حضورهم اليومي كما يحتفظ بذاكرة أسلافهم.

الأثر بدا واضحًا: العين استعادت حضورها كملتقى يومي، حيث يستقبل الزائر صورة البلدة الأولى، ويتقاطع الناس في فضاء مفتوح يتيح لهم الاجتماع والتواصل. ومع هذا الحضور المتجدد، تحرّكت عجلة صغيرة من التنمية: فرص عمل جديدة، إيرادات إضافية للمجلس القروي، وأنشطة ثقافية واجتماعية أعادت تثبيت التراث في وعي الأجيال.

عنزة اليوم تُعرّف نفسها من علوّها وعينها معًا: شرفة تفتح الأفق، وعتبة تحفظ الذاكرة. وما بين الحقول التي تزهر فوق الجبال، والبئر التي تصون المدخل، تُكتب قصة قرية فلسطينية حيّة، تضيف سطرًا جديدًا إلى تاريخ أطول من حدودها..


هذه المشاريع  جزء من برنامج المنح الفرعية الذي ينفذه الاتحاد الفلسطيني للهيئات المحلية في المناطق المسماة "ج". المبادرات المنبثقة عن هذا البرنامج ليست مجرد تحسين للبنية التحتية، بل أدوات عملية لتثبيت الناس في أرضهم، وتوسيع مساحات الحياة في وجه الحصار والمصادرة، وتحويل التنمية إلى فعل صمود يومي يحفظ الحق والذاكرة والوجود.

بتمويل من: الاتحاد الأوروبي والوكالة السويسرية للتنمية والتعاون