برقة | مشروع تأهيل حديقة المسعودية
منذ أن عبر قطار الحجاز هذه الأرض قبل أكثر من قرن، والمسعودية في برقة شمال نابلس تحرس حكايتها بين الجبال. المحطة العثمانية ما زالت حجارتها قائمة، تحتضنها أشجار معمّرة تفرش ظلالها كأذرع لا تفتر، وكأنها تحفظ صدى المسافرين والحجيج الذين مرّوا ذات يوم. اليوم، ما زال المكان يخفق بالحياة؛ أطفال يركضون بين المقاعد التي صنعها الأهالي بأيديهم كأنهم يلاحقون ظلّ القطار العابر، عائلات تتجمع في فسحة هادئة بعيدة عن صخب المدن، وزوّار يجدون في هذا الركن البسيط متنزّهًا مفتوحًا على الطبيعة والذاكرة معًا. في المسعودية لا يقف الزمن عند الأطلال، بل يتدفق في تفاصيل يومية؛ ضحكات تتعانق مع صدى الحجيج القدامى، وخطى معاصرة تسير فوق رصيف ما زال يمد ذاكرته ليحرس لحظات الفرح الصغيرة التي يصنعها الناس في الحاضر.
لكن هذا الفرح الهش سرعان ما يصطدم بالواقع. فالاحتلال حوّل المسعودية إلى ثكنة عسكرية، هدم المرافق التي بناها الأهالي، أغلق الطرق المؤدية إليها بالبوابات الحديدية والمكعبات الإسمنتية، وأُخلِيَت تحت فوهات البنادق كلما تنفست بالحياة. في المقابل، يفتح الأبواب للمستوطنين ليقتحموا المكان ويرفعوا أعلامهم ويمارسوا طقوسهم، في محاولة واضحة لطمس الهوية ونزع السيادة عن المكان. هكذا، تتحول المسعودية إلى رمز لمعركة مستمرة على الذاكرة والتاريخ والحق في الحياة.
وبينما يشتد الخناق على المسعودية، قررت برقة أن تجيب بفعل آخر: مشروع "تأهيل الساحات والمرافق العامة". ضمن برنامج المنح الفرعية، مشروع وُضع ليخاطب الناس في حياتهم اليومية، وليمنح أكثر من خمسة آلاف مواطن مساحة يلتقون فيها بأمان، بينهم أربعون في المئة من سكان المناطق المسماة "ج"، وأكثر من نصفهم من الفئات المهمشة من نساء وشباب. على أرضٍ تمتد لستمئة متر مربع، تحولت الساحات إلى فضاءات اجتماعية مؤهلة، تظللها أماكن جلوس، وتحتضن ألعابًا للأطفال، وتزدان بمرافق تحافظ على نظافة القرية وصورتها الحضرية.
ولأن التنمية هنا لا تنفصل عن الصمود، فقد انعكس أثر المشروع في تفاصيل ملموسة: زيادة بنسبة سبعة في المئة في إيرادات المجلس المحلي للعام 2025، وثلاث عشرة فرصة عمل جديدة. أما اختيار المشروع ذاته فكان انعكاسًا لروح المشاركة؛ إذ صاغه الناس بأصواتهم عبر لجنة محلية، كان للنساء والشباب فيها الثلث وأكثر، ليصبح المشروع مرآة حقيقية لأولويات المجتمع ووسيلة لإثبات الوجود في وجه المحو.
هذا المشروع ليس حالة استثنائية، بل واحد من عشرات المبادرات التي ينفذها الاتحاد الفلسطيني للهيئات المحلية ضمن برنامج المنح الفرعية، الرامي إلى تمكين الهيئات المحلية في المناطق المسماة "ج" من إطلاق مبادرات تنموية واجتماعية واقتصادية تعزز صمود الناس في أكثر البيئات تعرضًا للتهديد.