مشاريع تُعيد الزمن للمواقع التاريخية

في بيئة تعاني من القيود والتهميش، اختار الاتحاد الفلسطيني للهيئات المحلية أن ينطلق من التراث، كأداة تنمية تخلق فرصًا اقتصادية، وتعيد وصل المجتمعات بموروثها، وتحوّل المواقع التاريخية إلى فضاءات إنتاجية واجتماعية حيّة. أربعة مشاريع نفّذت بالشراكة مع البلديات شكّلت نماذج عملية لهذا التوجه.

يشكّل التراث الفلسطيني أكثر من مجرد معالم أثرية؛ هو ذاكرة وهوية متجذرة في الأرض، وأداة لتعزيز صمود المجتمعات في وجه التحديات السياسية والتنموية. في المناطق المسماة "ج"، التي تغطي أكثر من 60% من مساحة الضفة الغربية، تبرز هذه المعالم كمساحات مُقيّدة بفعل سياسات الاحتلال التي تعيق تطويرها، وتحرم القرى والبلدات من استثمار مواردها. ومع ذلك، أثبتت التجربة أن إعادة إحياء هذه المواقع يمكن أن تكون مدخلًا للتنمية السياحية والاقتصادية، ومجالًا لتعزيز الانتماء الوطني والوعي بالهوية الفلسطينية.

من هذا المنطلق، عمل الاتحاد الفلسطيني للهيئات المحلية على تنفيذ مجموعة من المشاريع التي أعادت الاعتبار لمواقع أثرية وطبيعية مهمة في خمس بلدات، لتتحول من أماكن مهمشة أو معطلة إلى فضاءات منتجة وحاضنة للحياة المجتمعية.

عين سلمان في بيت دقو: القلعة التي استعادت وقتها

على مدخل بيت دقو، القرية المعلّقة على كتف القدس، تتدلّى عناقيد العنب كأنها تصافح الزائرين. هنا حوّل الأهالي انحدارات الجبل إلى حبايل ومصاطب تُنبت الشهد، وجعلوا من ثمارهم مرآةً للبقاء والصمود. هذا الخضار الممتد، وهذه السناسل التي صمدت في وجه الجدار، ليست تفاصيل عابرة، بل جوهر العبقرية الكنعانية، وإلهام الأرض التي تزرع في أهلها معنى البقاء.

بيت دقو لوحة زراعية حية؛ تمتد بساتينها على أكثر من 1500 دونم مزدانة بكروم العنب والزيتون واللوزيات، تسقيها ينابيع عذبة مثل عين سلمان وعين جفنا. وليست الزراعة وحدها ما يميزها؛ فهي أيضًا سجلّ مفتوح للحضارات: أنفاق رومانية في خربة جفنا، ووادي الفوار الذي يفيض شتاءً، وصولًا إلى عقد بيت سلمان، الأثر العتيق الذي كان خانًا للقوافل التجارية. كل زاوية في القرية تقول إن التاريخ لم يغادرها يومًا.

وعند قلب هذا المشهد يقف موقع عين السلمان؛ نبع ماء يتدفق في بركة حجرية تحرسها قلعة قديمة بغرفها وأقواسها وأبراجها. المكان يروي حكايات العابرين: كيف اختاره سلمان العنيد في القرن العاشر الهجري لما فيه من ماء ومرعى، وكيف بقي شاهدًا على مرور الأجيال. ليست حجارة صامتة، بل فضاء حيّ يلتقي فيه الماضي بالحاضر، حيث يجلس الأهالي والزوار على وقع خرير الماء وظلال الحجارة القديمة.

ولأن الحفاظ على هذا الإرث جزء من استمراره، جاء مشروع تعزيز التوافد إلى عين السلمان ليعزّز حضورها ويضيف لها أفقًا أوسع. لم يكن تدخّلًا يفرض شكلاً جديدًا، بل دعمًا لروح قائمة. جرى تطوير مسارات سياحية تحيط بالموقع وتربطه بالكروم والمصاطب، وصار الوصول إلى العين تجربة كاملة تعكس هوية القرية. ومع إدخال حلول بسيطة كاستخدام الطاقة الشمسية، أصبح بالإمكان إطالة ساعات النشاط، لتبقى القلعة والنبع حيّة حتى في أمسيات الصيف. وحملات الترويج، أعادت وضع الموقع على خارطة الزوار، وفتحت له نافذة جديدة نحو محيطه الأوسع.

الأثر انعكس مباشرة على أهالي البلدة: شباب وجدوا فرص عمل، نساء شاركن في اللجان والأنشطة، وأهالٍ تطوعوا بجهدهم ليظل الموقع مفتوحًا للجميع. ومع تزايد أعداد الزوار ارتفعت إيرادات المجلس المحلي، لكن القيمة الأهم كانت أبعد من المال: عين السلمان أصبحت مساحة تُمارَس فيها الذاكرة، ويلتقي فيها الناس على صورة واضحة من الصمود والحياة المشتركة.


الحفيرة في رمانة: بئر يستعيد وظيفته في الزراعة والحياة

على حافة مرج ابن عامر تقف رمانة حارسةً للشمال الغربي من جنين. قرية عريقة ارتبط اسمها بأشجار الزيتون الرومية العتيقة، تضرب جذورها في الأرض وتحفظ في جذوعها أثر القرون. كانت رمانة تمتد حتى مشارف مجدّو والعفولة، لكن الاحتلال صادر معظم أراضيها، وأقام الجدار الذي فصلها عن عمقها الطبيعي.

في قلب هذا الامتداد يقع موقع الحفيرة؛ بئر تاريخي ارتبط بالزراعة والحياة اليومية، يجمع المزارعين حول مياهه، ويشكّل نقطة انطلاق لمسار فلسطين التراثي. هنا تلتقي المياه بالحقول، ويجتمع الناس في مواسم الحراثة والقطاف، لتبقى الحفيرة شاهدًا على صلة الأرض بأهلها.

ومن هذا الإرث انطلق مشروع تأهيل موقع الحفيرة التراثي السياحي، ليصوغ فضاءً يزاوج بين التراث والتنمية، ويعيد الزمن للبئر ومحيطه. جرى ترميم البئر وتأهيل الوادي، وتحويل المنطقة إلى فضاء عام مفتوح يحتضن جلسات خضراء ومسارات طبيعية. كما شُقّت ثلاثة مسارات بيئية جديدة تربط الموقع بكروم الزيتون واللوز والعنب، ليغدو مقصدًا للزوار وتجربة تجمع بين التاريخ والطبيعة.

الأثر كان واضحًا: ارتفع عدد الزوار سبعة أضعاف، واستفاد المزارعون من مياه البئر بشكل أوسع، ما عزّز النشاط الزراعي المحلي. كما أسهمت الحركة السياحية في دعم مشاريع صغيرة، وزيادة موازنة المجلس بنسبة 18%، إلى جانب خلق 19 فرصة عمل جديدة.

المجتمع المحلي كان جزءًا أصيلًا من التجربة، إذ شارك في 49 يومًا من العمل التطوعي لتنظيف وتأهيل الموقع، فيما شكّل ثلاثة متطوعين فريقًا دائمًا لدعم إدارة الحفيرة وضمان استدامته على المدى الطويل.

يمثل مشروع "تأهيل موقع الحفيرة التراثي السياحي" محطة محورية في مسار رمانة، إذ يعزّز السياحة البيئية، ويحافظ على التراث الثقافي، ويؤسس لنهج تنموي مستدام في القرية. وبما يتيحه من فرص اقتصادية ومجتمعية، يسهم المشروع في تعزيز صمود المواطنين في المناطق المصنفة "ج"، ويدعم مسيرة التنمية الاجتماعية والاقتصادية على مستوى المنطقة بأكملها.


هذه المشاريع  جزء من برنامج المنح الفرعية الذي ينفذه الاتحاد الفلسطيني للهيئات المحلية في المناطق المسماة "ج". المبادرات المنبثقة عن هذا البرنامج ليست مجرد تحسين للبنية التحتية، بل أدوات عملية لتثبيت الناس في أرضهم، وتوسيع مساحات الحياة في وجه الحصار والمصادرة، وتحويل التنمية إلى فعل صمود يومي يحفظ الحق والذاكرة والوجود.

بتمويل من: الاتحاد الأوروبي والوكالة السويسرية للتنمية والتعاون